في الشارع اللبناني، هناك حقيقة لا يمكن إنكارها بأي شكل من الأشكال. قوى الأمن الداخلي لا تحظى بالثقة الشعبية لأسباب عدّة. أولها الصورة العالقة في الأذهان بسبب ممارسات تراكمت مع الزمن، والتي لا يمكن محوها في لحظة تاريخية، بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت على هذا الصعيد.
في السنوات الأخيرة، يذكر الجميع الخطوات التي سعى وزير الداخلية والبلديات السابق زياد بارود إلى القيام بها، لا سيما لناحية إستبدال الزي، الذي يرتديه عناصر المؤسسة الأمنية التي تحمل في أغلب دول العالم شعار "خدمة الشعب"، إلا أن أزمة الثقة كبيرة تحتاج إلى إعادة بناء بأسرع وقت ممكن.
إنطلاقاً من ذلك، فجّرت الحركة المطلبية الأخيرة الأزمة على مختلف المستويات، وكانت قوى الأمن الداخلي هي المؤسسة الأضعف في نظام لا تؤمن به غالبية الرأي العام، بسبب وجودها في المقدّمة بمواجهة متظاهرين غاضبين، ساهم تراكم الظلم في تخطّيهم الحدود الطبيعية في تحركاتهم، فكيف تقرأ المؤسسة ما حصل في الشارع؟
الشريط الشائك وحماية المتظاهرين
في مؤتمره الصحافي الأخير، شدد وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق على ضرورة أن تعطى قوى الأمن الداخلي حقها في توضيح موقفها من الأحداث التي حصلت في الشارع مؤخراً، لا سيما أن هناك مؤسسات إعلامية تعطي الوقت الكامل لنقل وجهة نظر المتظاهرين، خصوصاً بعد أن تحول عناصر المؤسسة إلى مجموعة من "الشبّيحة"، بحسب الأوصاف التي أطلقت على نطاق واسع، إنطلاقاً من نظرية السعي إلى "شيطنة" الأجهزة الأمنية.
في هذا السياق، ينطلق مصدر أمني مطلع، عبر "النشرة"، من الحالة التي وصلت إليها الأوضاع لتوضيح وجهة نظر المؤسسة، التي على الأرجح لم تكن تتوقع أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، خصوصاً أن التحركات الأولى في الشارع لم تكن تجمع أكثر من عشرات الأشخاص.
ويشير هذا المصدر إلى أن بعض المتظاهرين يعمدون دائماً إلى محاولة إزالة الشريط الشائك، الموضوع أمام السراي الحكومي في وسط العاصمة بيروت، في حين أن الهدف الأساس منه هو حمايتهم من الإنتقال إلى مرحلة أخرى من المواجهة، ويشدد على أن ذلك لا يعني الإنتقاص من حقهم في التظاهر والتعبير عن الرأي بشكل سلمي، ولكن هناك قوانين يجب أن تُحترم.
ويلفت المصدر نفسه إلى أن محاولات إستفزاز تعرض لها عناصر مكافحة الشغب في أكثر من مناسبة، حيث يؤكد بأن هناك متظاهرين أصروا على توجيه الإهانات لهم، بالإضافة إلى رمي النفايات والحجارة باتجاههم، ويضيف: "بينهم من كان يوجه الأسئلة عن موعد رشّهم بالمياه أو إنطلاق المواجهة التي شاهدها الجميع عبر شاشات التلفاز".
وفي وقت يؤكد فيه المصدر الأمني المطلع على أن قوى الأمن الداخلي أخذت الأمور على عاتقها، يشير إلى أن المتظاهرين ربما لا يعرفون النتائج التي قد تترتب على تجاوز الشريط الشائك، الموضوع أمام السراي الحكومي أو أي مؤسسة أخرى، حيث سيكونون في مواجهة مع عناصر أمنية مسلّحة وظيفتها منع دخولهم بأي ثمن، لا بل لها حق إطلاق النار في حين أن قوات مكافحة الشغب لا تملك إلا الهروات وخراطيم المياه.
ما بين رياض الصلح وساحة الشهداء
وعلى الرغم من التطورات الدراماتيكة التي حصلت في الشارع، لا تزال مؤسسة قوى الأمن الداخلي تُصرّ على إحترامها حق المتظاهرين في التعبير عن رأيهم تحت سقف القانون، إلا أنها تشدد على أن هناك مسلّمات ينبغي أن يعرفها الجميع.
على هذا الصعيد، ينطلق المصدر الأمني المطلع من مقارنة بأي من التحركات التي حصلت فيها مواجهات والتظاهرة الكبرى يوم 22 آب الماضي، حيث كانت قوى الأمن الداخلي إلى جانب المتظاهرين في مسيرتهم من أمام وزارة الداخلية والبلديات في شارع الحمرا وصولاً إلى مكان تجمعهم في ساحة الشهداء، ويضيف: "إنطلاقاً من شعار منكم ولكم، كان هدفنا حمايتهم وتأمين حقهم في التعبير عن الرأي حتى اللحظة الأخيرة"، لكنه يشدد على أن أعمال الشغب لا يمكن السكوت عنها كونها تجاوز للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء.
ويشير هذا المصدر إلى أن المتظاهرين يعتبرون أن من حقّهم الدخول إلى المؤسسات العامة، على إعتبار أنها من أملاك الشعب اللبناني، إلا أنه يؤكد أن هذا الأمر غير صحيح، فهي ملك الشعب وفق القوانين التي لا يمكن تجاوزها، ويلفت إلى أن هناك شروطاً موضوعة متعارف عليها في كل دول العالم، ويسأل: "هل يستطيع المواطنون في الولايات المتحدة أو فرنسا الدخول إلى أي مؤسسة عامة بهذه الطريقة؟"، ويضيف: "هناك مسؤوليات علينا جميعاً من المفترض أن تدفعنا إلى التعاون لتأمين حق المتظاهرين في التعبير عن رأيهم من جهة، وحفظ الأمن من جهة أخرى، خصوصاً أن الأخطار المحدقة في البلاد كبيرة".
ويوضح المصدر نفسه أن الهدف من التظاهر هو أن يستطيع المواطن التعبير عن رأيه في مكان تستطيع القوى الأمنية أن تؤمنه، حفاظاً على سلامته وعلى سلامة الآخرين وعلى الأملاك العامة والخاصة، ويشدد على أن السلطات الرسمية هي المعنية في تحديد المكان والمسلك المناسبين، ويلفت إلى أن هذه مبادىء متعارف عليها في أعرق الدول الديمقراطية.
ما بين "المنظمين" و"المندسّين"
على صعيد متصل، لا ينكر المصدر نفسه إمكانية حصول أخطاء من العناصر الأمنية، لا بل يشير إلى أن المؤسسة عبر وزير الداخلية والبلديات أعلنت عن محاسبة ضباط وأفراد، ويشدد على أن ليس هناك من لا يخطىء، لا سيما عندما تحصل فوضى على مختلف المستويات.
حتى الآن، يفضل هذا المصدر عدم الحديث عن وجود "مندسّين" في التظاهرات، بالرغم من تلميحه إلى أن هناك تحقيقات قائمة حول هذا الموضوع، ويوضح أسباب حديث مؤسسة قوى الأمن الداخلي بالإشارة إلى أن المنظمّين هم من تحدثوا عن هذا الأمر قبل أن يتراجعوا لاحقاً.
ويلفت إلى أن بداية الصدامات كانت من خلال الإصرار على دخول ساحات لم تسمح القوى الأمنية بالوصول إليها، حيث أراد المتظاهرون في المرة الأولى الدخول إلى ساحة النجمة، في وقت وجدت شرطة مجلس النواب أن هذا الأمر غير ممكن، في حين كانت حرية الرأي والتعبير مكرّسة في كل الأماكن الأخرى، ويوضح أن هذه مخالفة قانونية.
من ناحية أخرى، يشير المصدر الأمني إلى غياب التنظيم عن التحركات القائمة في الشارع، ويشدد على أن المسؤولين عنها إعترفوا بهذا الأمر، ويوضح أن من أصول التظاهر أن يتولى المنظمون السيطرة عليها ومنع أي شخص من الذهاب نحو العدوانية، أما القوى الأمنية فتتدخل عند تجاوز الخطوط الحمراء.
ويقول: "عند ذلك لا يستطيع العنصر الأمني، الموجود على أرض الواقع، التفريق بين مثيري الشغب وغيرهم، ويكون من مسؤوليته إبعاد المتظاهرين عن الأماكن التي من غير المسموح الوصول إليها، وهنا من الممكن حصول أخطاء كالتي وقعت".
تعميم الفوضى مرفوض
وفي الوقت الذي يشدد فيه المصدر الأمني المطّلع على أن عناصر قوى الأمن الداخلي ليست بعيدة عن الواقع الصعب الذي يمر به أغلب المواطنون، حيث هم يعانون من الأزمات المتعددة وعندما يعودون إلى منازلهم يكونون مواطنين عاديين كغيرهم، يؤكد أن هناك مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتقهم، بموجب القوانين القائمة، لكنه يوضح أن هناك بوادر حسن نيّة تقوم بها المؤسسة لمنع تفاقم الأمور.
ويلفت هذا المصدر إلى أن ما حصل في وزارة البيئة عمل مخالف للقانون، في وقت عملت قوى الأمن الداخلي على محاولة إخراج المتظاهرين على مدى ساعات طويلة عن طريق التفاوض، لمنع تعطيل عمل مؤسسة عامة، لا سيما أن هناك وزيراً كان محتجزاً في مكتبه، ويتابع: "رغم الطلب أكثر من مرة كان هناك إصرار على الرفض".
وفي حين يشدد على وجود مواد قانونية تعاقب على هذه الأفعال، ربما لا يعلم بها المتظاهرون، يلفت إلى أن عدم توقيف أي منهم هو بادرة حسن نيّة من قبل القوى الأمنية، لكنه يؤكد على أنها ستعمل قدر الإمكان على عدم تكرار هذا العمل، إنطلاقاً من مهمتها في تطبيق القانون وحماية الأملاك العامة، ويشير إلى الخلافات التي وقعت بين المتظاهرين أنفسهم بسبب ما حصل في الوزارة.
ويحدّد المصدر الأمني المطلع عناوين المرحلة المقبلة بالقول: "كل الساحات والمؤسسات ملك الشعب لكن وفق القانون"، ويؤكد أن تعميم مبدأ الفوضى مرفوض بشكل مطلق، ويشير إلى أن ما تفكر به مؤسسة قوى الأمن هو تطبيق القوانين وترك المتظاهرين يعبرون عن رأيهم بكل حرية.
لسنا نحن من ينتخب
بالعودة إلى تحميل قوى الأمن الداخلي مسؤولية كل ما يجري على الساحة اللبنانية، يوضح المصدر نفسه أن البلاد لا تمر في حالة عادية، بل هي في مرحلة من الأصعب على مختلف الصعد، حيث الإرهاب لا يقف على الحدود فقط بل هو في الداخل أيضاً.
ويلفت إلى أن العنف وعدم الإستقرار يلفّ كل لبنان وما يحصل هو استنزاف لعمل المؤسسات الأمنية، خصوصاً أن الفوضى هي الأرض الخصبة لبناء قواعد الإرهاب وتحركاته، ما يفرض على الجميع تحمل مسؤولياتهم الوطنية.
وفي حين يشدد على أن الفصل بين الجميع هو القوانين وتطبيقها، يشير إلى أن الشعب هو من وضعها، عبر النواب المنتخبين من قبله، من أجل تأمين الإنتظام العام، ويلفت إلى أن ضباط وعناصر مختلف الأجهزة الأمنية لا يشاركون في العملية الإنتخابية، حيث يحرمهم القانون هذا الحق، وبالتالي لا يتحمّلون مسؤولية القوانين التي تقع على عاتقهم مهمة تطبيقها.
وعلى الرغم من ذلك، يؤكد أن "التظاهر حقّ مقدّس ومن واجبنا حمايته وحماية الحريات، ويشير إلى أن القوى الأمنية ليست خائفة من كرة الثلج أو تحركات المواطنين في الشارع ولكن عليهم تجنّب الفوضى، ويسأل: "من مصلحة من خلق شرخ بين المواطنين وقوى الأمن الداخلي وتشويه صورتها؟"، ويجيب: "نحن ضحيّة ونستنزف من أجل ضمان الحرية وحق التظاهر، نحن حماة الحرية وحراس الجمهورية".
في المحصلة، هذه هي وجهة نظر قوى الأمن الداخلي من كل ما يجري من تحركات في الشارع، بحسب ما ينقلها مصدر أمني مطلع عبر "النشرة"، فهل تنجح في توضيح الصورة أمام الرأي العام، في ظل المخاوف العديدة التي يعبّر عنها؟